المادة    
((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ))[الأنعام:79] بعد أن ذكرنا جانب الإيمان, نأتي الآن إلى الاحتراز, فنحترز من أعظم ذنب عُصِيَ الله به، الذنب الذي لا يغفره الله أبداً إلا لمن تاب, الذنب الذي حرم الله تبارك وتعالى على فاعله أو صاحبه الجنة أبداً إلا أن يتوب, ومن لقي الله وهو مذنب بهذا الذنب فإن مصيره الخلود في النار, فما هو هذا الذنب العظيم؟
إنه الشرك: ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))[الأنعام:79] .
  1. تحذير الأنبياء من الشرك

    إبراهيم عليه السلام لما دعا الله ((وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ))[إبراهيم:35], قال ابن تيمية رحمه الله: ''ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم''.
    الله أكبر! إمام الموحدين الذي حطَّم الأصنام يدعو بهذا الدعاء, والذي جاهد لكي لا يعبد إلا الله, والذي ذبح ابنه امتثالاً لأمر الله, وإن لم يقع الذبح لكن قد فعله وصدق الرؤيا, وامتثل أمر الله, من أجل توحيده لله، وامتثاله لأمر الله, المر الذي هو فامتثله رؤيا رآها فتله للجبين .
    وهذا إبراهيم عليه السلام الذي هاجر في الله، وفي ذات الله، ودعا إلى الله, وجعله الله إماماً للناس, وأوحى إلى داعية التوحيد العظيم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ))[النحل:123] هذا نفسه يدعو الله: ((وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ))[إبراهيم:35] يدعو الله أن يجنبه الشرك, سبحان الله! إذاً الشرك خطير, يقول ابن تيمية رحمه الله: ''ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم'' من يأمن؟
    لا تقل: إن الكلام قد كثر كل يوم عن الشرك, والناس موحدون والحمد لله وهم مسلمون, سبحان الله!
    هل أنت أكثر توحيداً من إبراهيم الخليل؟!
    لا، والله, لما أمره الله تعالى أن يبني هذا البيت العظيم, الذي هو قبلة الموحدين في جميع أنحاء العالم إلى يوم الدين, ماذا قال تبارك وتعالى: ((وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً))[الحج:26] يا إبراهيم! ابن البيت، ولا تشرك بي شيئاً, فهذا أول أمر يؤمر به إمام الموحدين: ألَّا يشرك بالله, فلم يقل: يا رب! أنا إمام الموحدين, أنا الذي وحدتك تنهاني عن الشرك؟ وإذا نهيت أحداً أو تكلمت أو حذَّرت من الشرك, قيل: ليس عند هؤلاء الناس إلا الشرك؟ ولا يتكلمون بغير الشرك؟
    سبحان الله! وماذا قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو إمام الدعاة إلى الله، الذي يجب على كل داعية أن يقتدي به إذا كان من أتباعه: ((وَمَنِ اتَّبَعَنِي ))[يوسف:108] ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ))[الزمر:65-66].
    فمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول له ربه: قد أوحي إليك يا رسول الله, وإلى الذين من قبلك من الرسل -ومنهم إبراهيم إمام الموحدين- لئن وقع منك ذلك الشرك ليحبطن عملك.
    سبحان الله! العمل كله؟ نعم, الجهاد, والدعوة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والهجرة, والصلاة, والزكاة, كل ذلك يحبط منك يا رسول الله ومن قبلك لو أشركتم بالله: ((لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ))[الزمر:65] فهو خاسر, مع أنه يأتي بتجارة كبيرة جداً ولكنه خاسر في الحقيقة .
    فبعض الناس كالنصارى -مثلاً- ترك الزواج، وترك الدنيا، ولكنه يذكر الله ليل نهار، انقطع عن كل شيء إلا عن العبادة -كما يزعمون- لكن يوم القيامة: ((وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً))[الفرقان:23] ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً))[الكهف:103-104].
    يقول: يا أخي! أنا أحمد الله، وأنا دائماً أذكر الله, وأصلي, وكل يوم أقرأ القرآن, ودائماً في جهاد, ودائماً آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر, فيقول: ما الذي تريده منا؟
    نقول: هذه الثروة العظيمة من الحسنات لا تقبل ولا تتحقق إلا بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, اجتنب الشرك, ولا تأنف ولا تستكبر عمن يقول لك: لا تشرك بالله, لأنه قال: ((لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ))[الزمر:65] فتذهب كل هذه الأعمال: ((وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ))[الزمر:65] الذين يرون هذه الأعمال العظيمة تذهب هباءً منثوراً, ولا يستفيدون منها بشيء: ((بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ)) وهنا ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))[الفاتحة:5].
    هنا قدّم الضمير، وهناك قدم الاسم العلم: ((بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ))[الزمر:66] هكذا أمرنا ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فأول الأمر وآخره هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
  2. الشرك في أعمال القلوب

    توحيد الله يقوم بتحقيق أعمال القلوب, أن تكون خالصة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن أهم أعمال القلوب: الإخلاص ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ))[البينة:5] وبعد ذلك: ((وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)) [البينة:5] الإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الصدق مع الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ))[التوبة:119]، وقد قالها بعد أن ذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أصناف الناس السابقين من الأولين، ثم ذكر الذين مردوا على النفاق , ثم ذكر الذين هم مريدون لأمر الله, ثم ذكر الثلاثة الذين خلفوا, ثم ذكر: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ))[التوبة:119] أي: مع الأولين والسابقين، مع الأولين لا مع المنافقين الذين ذكر الله شأنهم في هذه السورة -التوبة- وفي غيرها, فلا بد أن تصدق مع الله، ويجب على كل إنسان أن يكون صادقاً مع ربه بإيمانه به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وليس نطقاً بقوله.
    ومن أعمال القلوب التي تحقق لنا التوحيد: الخوف من الله وحده لا شريك له, ولو فطن الدعاة إلى هذا لرأيت العجب العجاب في الدعوة إلى الله, ولو أن كل مؤمن لم يخف إلا الله, ولم يخف أحداً من البشر كائناً من كان في أمر يغضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لرأيت العجب العجاب من التمكين والعز والنصر.
    لكن الإنسان يقول: لو اتقيت الله, ولو اتبعت ما أمر الله، لفعل بي فلان الذي هو أعلى مني في الوظيفة كذا! فهو يخاف من فلان لأنه أقوى منه, ويخاف من كذا..، فأخافنا الشيطان: ((إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ))[آل عمران:175].
    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل ذلك الخوف منه وحده, ولو خفنا من أعداء الله ولم نخف من الله فلن ينصرنا الله تبارك وتعالى عليهم أبداً, بل جعل الله تعالى طريق النصر كما بين: ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً))[آل عمران:120] فالأعداء يكيدون لنا، ولا توجد وسيلة مما في علمنا أو عقولنا أو خيالنا إلا وقد حاربونا بها, وهذا حق كما ترون الآن في هذا الزمن, وفي كل لحظة، وفي كل دقيقة, فنحن مستهدفون ومحاربون, بالذات في هذا البلد الآمن المطمئن, القائم على دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ففي كل لحظة تجد الحرب الشرسة علينا، لكن إذا خفنا منهم إذاً أشركنا, فما الطريق؟ وما الحل لمواجهتهم؟ ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا))[آل عمران:120].
    إذا صبرنا واتقينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً))[آل عمران:120] لا يضرك كيدهم أبداً .
    أقول: الأعداء يُخططون لنا ولكل المسلمين، وكثير من المسلمين لا يعرفون ذلك، انظروا إلى ما في التلفاز، وإلى ما فيه من المسلسلات، وإلى الفيديو...، فإن هذا من تخطيط الأعداء لإفساد الأخلاق, وكثير من الناس يقولون: لا أستطيع أن أصبر على مشاهدة هذه الأشياء, ثم يسأل: لماذا الأعداء ينتصرون علينا؟
    أنا أقول: إذا كنت لا تستطيع أن تصبر على هذا، فكيف ينصرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونحن بغير تقوى؟!
    نحن المسلمين لم ننتصر على أنفسنا وعلى شهواتنا، فكيف ينصرنا الله على الكافرين؟!
    نحن المسلمين إذا تمكن بعضنا من بعض, تجد أن تقوى الله لا تمنعه ولا تردعه من أن ينتقم منه أو أن يظلمه إلا من رحمه الله, لكن هذا هو العموم، فكيف يولي الله الظالمين؟
    كيف يورث الله الأرض للظالمين؟ وانظروا كم في المحاكم، والشرط، والإمارات، والإدارات من شكاوى لا بد فيها من ظالم ومظلوم, فنحن نظلم بعضناً بعضاً بهذه الكمية الهائلة, ونريد أن يورثنا الله الأرض, ونقول: لماذا لا يُمكِّن الله لنا نحن المسلمين في الأرض؟ وكل جمعة ندعو: اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ومجد ووحد واجمع! دعاء لا عمل معه, فكيف يولي الله الظالمين؟
    لو جمع كلمتنا ونحن بغير تقوى ولا صبر لدمرنا الدين -والعياذ بالله- لكن تفرقنا في هذه الحالة أفضل وأحسن, فهذه حكمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    إذاً لا ينفع إلا أن نصبر وأن نتقي الله, والشاهد أن الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, هو أحد أهم أعمال القلب التي يجب أن يوحد الله بها.
    والصبر من أعمال القلب أيضاً, التي يجب أن تُفرد وأن تتحقق، فإذا كنا ندعو إلى توحيد الله وإلى العقيدة الصحيحة, فمعنى هذا أن ندعو أيضاً إلى الصبر؟
    حيث نصبر على طاعة الله, ونصبر عن معصية الله, ونصبر على أحكام الله الشرعية, ونصبر على أحكام الله القدرية, وعلى المصائب التي تقع ويكون موقفنا منها الصبر, لأن الله تعالى هو الذي قدَّر ذلك وكتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
    وأيضاً: الرغبة, والإنابة, وكثير مما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم من أعمال القلوب يجب أن نحققها وأن نوحد الله فيها.